لا شيء يلفت الانتباه على طول الطريق الممتد لأكثر من 120 كيلومترًا من العاصمة جيبوتي إلى بحيرة العسل Lake Assal سوى قطعان القرود المتربصة بخيام البدو المتناثرة في أرجاء صحراء تمتد في كل الاتجاهات، رملٌ من بعده رمل ومن تحته رمل.. لا شيء غير الرمل والجفاف والشمس الحارقة.
تشن القرود حملات سطو خاطفة على خزين البدو من الطعام والماء وعندما تُعييها الحيلة تشاغل قوافل المسافرين طمعًا في ثمرة فاكهة أو زجاجة ماء.
تقع البحيرة غرب خليج تاجورة المطل بدوره على خليج عدن. من الجانب الاقتصادي يقصد السياح البحيرة للتمتع بمشاهد تَقَلُب ألوانها في ضوء الشمس تأثرًا بتغير مستويات تركيز الملح على مدار الساعة، ومن جانب آخر مصدرًا رئيسيًا لتصدير أحد أفخر أنواع الملح المعدنية في العالم.
اكتسبت البحيرة اسمها العربي تحريفًا للكلمة الفرنسية Lac Salé، والتي تنطق أقرب لكلمة "عسل" بالعربية، بينما معناها "بحيرة الملح"!!.
يُشعرك الوقوف على حافة الخليج والنظر إلى الجانب اليمني المقابل بجبروت الجغرافيا، فهناك وعلى بعد مائة كيلو متر يقع باب المندب، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر الممتد بطول 1900 كيلومتر كأنبوب يمتد قرناه؛ ذات اليمين حيث خليج العقبة بالمملكة الأردنية، وذات الشمال حيث خليج السويس في مصر.
ترتبط جيبوتي واليمن بثقافات مشتركة أبرزها عادة مضغ وتخزين القات بين الرجال والنساء، حيث ينتشر عرضه في الأسواق الشعبية على نحو يشابه بيع الفجل والجرجير في مصر؛ تراه مرصوصًا على أقفاص من الجريد أو البلاستيك ومُغطىً بقماش من الخيش الـمُنَدَى بالماء للحفاظ على طراوته، ولأسباب ربما ترجع للعادات والتقاليد، تستأثر النساء بتجارة القات بينما يكتفي الرجال بمضغه وتخزينه!!.
كذلك، وعلى نحو بدائي تستحوذ النساء أيضًا على أعمال الصيرفة؛ أو استبدال العملات، حيث يفترشن أرض السوق ونواصي الشوارع وأمام كل منهن صندوق متواضع أو جوال لحفظ العملات.
حياة بالغة البساطة والتواضع لا تتناسب مع ثراء جغرافي أغرى العديد بإقامة قواعد عسكرية تُشرف من خلالها على أحد أهم المسارات البحرية الاستراتيجية وكذلك الجانب اليمني الملتهب صباحًا والمشتعل ليلاً.
وكأن اليمن على عهد مع عدم الاستقرار، منذ اضطرابات المملكة المتوكلية ومقتل الإمام يحيي حميد الدين، وتولي ابنه أحمد، ثم أخيه محمد البدر، فقيام الثورة والتحول إلى الجمهورية وتولي عبد الله السلال الرئاسة، انتهاءً بعلي عبد الله صالح ومقتله على يد حلفاءه الحوثيين.
من يملك الشاطيء يملك البحر.. ويقول التاريخ أن من يتجاهل الجغرافيا يخسر..
اجتاحت القوات الألمانية مدينة ستالينجراد الروسية في صيف 1942، وأجبرتها الجغرافيا والصقيع في فبراير 1943 على الانسحاب.
وفي ديسمبر 1979 أمر الرئيس الروسي ليونيد بريجينيف قواته باحتلال أفغانستان، خوفًا من تحول ولائها إلى أمريكا، استمرت الحرب عشر سنوات تكفلت خلالها الجغرافيا الجبلية والمجاهدون والإمدادات الأمريكية بإعاقة تحقيق السيطرة الكاملة، فاضطر خلفه ميخائيل جورباتشوف إلى الانسحاب في فبراير 1989.
اليوم، تترصد الصواريخ والمسيرات الحوثية بالسفن العابرة للبحر الأحمر مهددة أكثر من 12% من التجارة العالمية المارة من قناة السويس، فضلاً عن صادرات الخليج النفطية إلى أوروبا وأمريكا.
تحويل مسارات السفن إلى رأس الرجاء الصالح يُضيف أكثر من 40% إلى تكاليف الشحن، فضلاً عن ارتفاع قيمة التأمين، والتأثيرات السلبية على اقتصادات دول المنطقة كافة.
هناك دول تعطل فيها الزمن.. بالقياس لم تختلف الحياة في اليمن كثيرًا خلال المائة عام الماضية.. فغاية ما يبحث عنه اليمني بعد ما يفرغ من إطلاق صواريخه حزمة قات تاركًا الكلمة الأخيرة للجغرافيا.